٢١ / ١٠ / ٢٠٢٥
ميخائيل عوض
١
يبدو السؤالُ مستغرَبًا، والمؤكَّدُ أنَّ الذين ما زالوا يُفكِّرون بعقولٍ تقليديةٍ، ولا يُجيدون التفكيرَ من خارجِ الصندوقِ، في أزمنةِ الغليانِ والفوضى العالميةِ، وفي زمنِ الحربِ العالميةِ العظمى الجاريةِ بكلِّ الوسائلِ والفروعِ والمسارحِ، وينخرطُ فيها العالمُ القديمُ المتداعي الأركانِ والفاقدُ لقدرته على الاستمرارِ، في مواجهةٍ مع القوى العالميةِ والإقليميةِ والمحليةِ الصاعدةِ والباحثةِ عن وسائطَ وآلياتٍ لتسريعِ دفنِ القديمِ وتسريعِ ولادةِ العالمِ الجديدِ...
القابعون في أزمنةِ الماضي وقواعدِه وبيئاته سيرجمون السؤالَ والسائلَ!
لا بأس، فلو أنَّ الكلَّ يعرفُ الجاري وما سيكون، لكان كلُّ فريقٍ صنع المستقبلَ على مصالحِه ومزاجِه، فعُلومُ المستقبلِ وقيادةُ الواقعِ بمعرفته الملموسةِ لصناعةِ المستقبلِ، ما زالت حكرًا على أشخاصٍ عرَفَهم لينين بتوصيفِه للحركةِ الثورية، وطابقَ على تعريفِه كيسنجر بوصفِه القائدَ: هو من يعرفُ الجاري وما سيكون، ويتدخّل في الوقت المناسب ليكون في صالحِه... وتلك صفاتٌ ما زالت حكرًا على قلائلَ للأسف، ولم تصبح شائعةً.
فشأنُ رمياتِ اللهِ المُحكَمات أن تقعَ صواعقُ مفاجئةٌ وتُغيِّرَ ما قبلَها، ثم تتغيّرَ الأفكارُ وقواعدُ التفكيرِ.
زمنُ الغليانِ العالميِّ هو زمنُ رمياتِ اللهِ المُحكَمات، أكان البشرُ يُدرِكونَها أم يُصعَقونَ للمفاجآتِ.
جرَت قبل سنتين مع طوفانِ الأقصى العجائبية، ثم وقعت مع حماقةِ نتنياهو وقصفِه قطرَ، وتجري في اتساعِ شقّةِ التباينِ والخلافاتِ بين أمريكا الترامبية وخططِها ومشاريعِها مع نتنياهو وفريقِه العقائديِّ غيرِ الآبهِ بما سيكون، ولا يُقيمُ حسابًا إلا لمصلحتِه الشخصيةِ ورؤيتِه التلموديةِ، وقد بلغ به جنونُ العظمةِ أن أعلن الحربَ بصفتِها يومَ القيامةِ والبعثِ، وهو عاجزٌ عن غزّةَ وأساطيرها.
٢
لا دخانَ بلا نارٍ.
قبل توقيعِ معاهدةِ الدفاعِ المشتركةِ السعوديةِ الباكستانيةِ، كانت باكستان قد أعلنت جاهزيّتَها لدخولِ الحربِ إلى جانبِ إيران. وقبل إعلانِ المعاهدةِ يومَ الأربعاء، كان لاريجاني يومَ الثلاثاء في السعودية، وتحدّثت التسريباتُ عن سعيٍ لتأمينِ الدفاعِ المشتركِ. وبعد إعلانِ المعاهدةِ خرج الأمينُ العامُّ لحزبِ اللهِ وأعلن رغبته بطيّ الصفحةِ مع السعودية، ودعاها إلى الحوارِ، وبرغم أن قيامَ العقولِ المتحجّرةِ قامت عليه، إلا أنَّ لاريجاني في زيارته لبيروتَ صبَّ الماءَ الباردَ على الرؤوسِ الملتهبةِ، وأكَّد وأشاد بمبادرةِ الأمينِ العامِّ، وأكّد أنَّ إيران تُساندُها، وأنَّ القائدَ يدعمُ الأمينَ العامَّ، وذهب أبعدَ بإعلانه قد تكونُ إيرانُ جزءًا منها.
وقبلَ هذه وتلك، احتضنت القاهرةُ توقيعَ اتفاقيةٍ بين إيران ووكالةِ الطاقةِ النوويةِ، ممّا استوجب أسئلةً من خارجِ الصندوقِ، والتفاتةً إلى أنَّ العلاقاتِ الإيرانيةَ المصريةَ تقدَّمت سريعًا وأصبحت عميقةً إلى حدٍّ نوعيٍّ.
المصالحةُ السعوديةُ الإيرانيةُ، وتبادلُ الآراءِ وتعزيزُ العلاقاتِ، أصبحت واقعًا لا يرقى إليه الشكُّ، ولم يعد من عقباتٍ أمامَ التفاعلِ المصريِّ الإيرانيِّ السعوديِّ الباكستانيِّ، فالدولُ الأربعةُ أعلن نتنياهو استهدافَها بالتتابعِ وبالتدميرِ، ومصرُ والسعوديةُ بالاحتلالِ لإقامةِ "إسرائيل الكبرى"، ولم يُحسِب حسابًا لأحدٍ، وقصفَ الدوحةَ المحميةَ بعشرين ألفًا من ضبّاطٍ وجنودِ أردوغان، وبقاعدةِ السيليةِ كمقرٍّ لقيادةِ المنطقةِ الوسطى الأمريكيةِ، وغدرَ بترمب على قولِ صهرِه كوشنير ومندوبِه الشخصيِّ ويتكوف...؟؟
٣
كيف تقومُ العلاقاتُ بين الدولِ والسلطاتِ؟ ولماذا؟ وفي أيِّ أزمنةٍ؟
الإمامُ عليٌّ قدَّم قاعدةً: "عدوّي وصديقي"، وهي اليوم تنطبقُ على الدولِ الأربعةِ لتكونَ صديقاتٍ، فكلُّها مُهدَّدةٌ بالتدميرِ والتطبيشِ والاحتلالِ والزوالِ، وصديقاتٌ وعدوُّها واحدٌ، وأصدقاءُ أعدائِها متوحِّدون.
ومن المؤشّراتِ والإرهاصاتِ التي يمكن ضبطُها: أنَّ ابن سلمان والسيسي وابن زايد لم يذهبوا إلى الجمعيةِ العامةِ، ولم يحضروا لقاءَ ترمب بممثّلي الدولِ الإسلاميةِ والعربيةِ التي تصدّرها أردوغان وأميرُ قطر.
وفي قمّةِ ترمب في القاهرةَ، لم يحضر الأميرُ ابن سلمان ولا ابن زايد، وتوجَّه لهما ترمب بخطابِه قال علنًا: "هناك اثنان لا أُحبُّهما، ولن أُعلن عنهما..؟"
توماس بَراك نجح في إقناعِ ترمب بالتحوّلِ من العلاقةِ الإيجابيةِ مع ابن سلمان وابن زايد والسيسي، إلى تبنّي وتمتينِ العلاقةِ مع أردوغان وأميرِ قطر، برغم أنَّ أردوغان وأميرَ قطر كانا قد أسهما بسقوطِه في انتخاباتِ الـ٢٠٢٠ بتمكينِ لوبي العولمةِ والديمقراطيين من الاستثمارِ بقضيةِ خاشقجي، وكان ترمب في حملتِه الانتخابيةِ، وقبل أن يسطو عليه توماس بَراك، قد توعّد قطرَ بالاسمِ في فيلمٍ نشرَه إيلون ماسك، أشار فيه إلى أنَّها قدَّمت أموالًا طائلةً للقوى الإرهابيةِ.
تحوُّلُ ترمب – بَراك – لتبنّي قطرَ وأردوغان والإخوان المسلمين، من الدوافعِ الحافزةِ للإمارات والسعودية للبحثِ عن بدائلَ. وباكستانُ تستطيعُ لعبَ دورِ التقريبِ، بل تمتينِ العلاقاتِ مع إيران ومصرَ، وفي أزماتها وفي التهديداتِ الوجوديةِ تجدُ في الثلاثةِ ملاذًا وعناصرَ قوّةٍ إضافيةً نوعيةً في وجهِ الجميع، وأوّلُها خطرُ نتنياهو و"إسرائيلِه الكبرى"، وخطرُ أردوغان والإخوانِ من بوابةِ غزةَ.
٤
المعطياتُ والظروفُ الماديةُ، والمخاطرُ والتهديداتُ، وطبيعةُ العدوِّ الذي يستهدفُ الدولَ الأربعةَ، من الحوافزِ الماديةِ التي تؤهّلُها لإمكانيةِ التفاعلِ والتفاهماتِ، ولا يعودُ مُستبعَدًا إعلانُ تكتّلٍ هائلِ الأهميةِ، إن أُعلِن، سيكون من رمياتِ اللهِ المُحكَمات، ومن "البجعاتِ السودِ السِّمان" التي تُطلِقُها الحربُ الوجوديةُ وحالةُ الغليانِ والفوضى العالميةِ.
إنَّ للهِ في خلقِه شؤونًا، ما كان قبلَ الطوفانِ مستحيلًا صار معها ممكنًا، وربما احتمالاتُه راجحةٌ.
للهِ دَركِ يا غزّةَ هاشمَ والمعمدانيِّ، أسطورةَ الأزمنةِ والشعوبِ ومقاومتِها.
"إسرائيلُ" هُزِمَت في الحربِ الوجوديةِ، ولن يكونَ لها مكانٌ في المنطقةِ، وعساها أن تأخذَ معها العالمَ الأنجلوسكسونيَّ ومنتجاتِه من الإسلامِ السياسيِّ والمسلّحِ، وفي أوّلِهم حركةُ الإخوانِ وفصائلُها ومنتجاتُها ودولُها.
فسنةُ ٢٠٢٥ أقسمت ألّا تُغادرَنا إلّا وقد شهدت أحداثًا عاصفةً زلزاليةً مُغيِّرةً في أحوالِ العالمِ والحياةِ البشريةِ.
هكذا هي السنواتُ العقديةُ، وقد وفَّرَ لها الطوفانُ العجائبيُّ كلَّ الأسبابِ والشروطِ، وأخرجت "إسرائيلَ" ونتنياهو من العقلنةِ إلى الأوهامِ، والإعلانِ عمّا يُبطِنُه من مخطّطاتٍ ومشاريعَ في منزلةِ استحالةِ التحقّقِ.
لمتابعة كل جديد الاشتراك بقناة "قناة Z لبكرة شو؟"
على الرابط:
https://youtube.com/channel/UCF1cJ18MEv87XTvTelwEtEg?si=Oe61StGA5k1o3hfb